مثل أي يومٍ عادي, لا شيء مثير للاهتمام سوى قرار الموافقة على الرجل الذي تقدم بالأمس لخطبتها.
استيقظت العائلة باكراً كعادتها, والأم قبل أن تقول “صباح الخير” سألت ابنتها:
شو بدي رد على بنت خالك اليوم؟ إذا ما وافقتي, يمكن ما يجيكي غيرو..
عهد مازالت تفكر وتقول في رأسها: بوافق وبخلص من هالبيت, ولا ما بوافق وما رح يجيني غيرو لهالعريس!!
دائماً ما كانت عهد توقع نفسها في المشاكل مع عائلتها ومع المقربين, ليس بقصد السوء واللحاق بالأضرار, تشعر عهد أنها أقل قيمة من قريباتها, هكذا زرع المحيطون في تفكيرها, كانت ترغب أن تفرض نوع من السيطرة, أو أن يلاحظوها ويهتموا لأمرها, لكن عبس أن نجحت إحدى هذه المخططات..
هي المسؤولة عن ترتيب منزل أهلها, تشعر بالحرج مقارنة مع صديقاتها اللواتي يملكن منزل يشبه أحلامها عن المنازل التي يجب أن تكون, ضيق الحال لم يكن سبباً مقنعاً لها لكي يكون منظر المطبخ أفضل أو غرفة الجلوس ودهان الحائط ووو… أغرقت نفسها في تفاصيل المنزل ونسيت تعليمها ولم تتمكن من الحصول على شهادة الثانوية العامة رغم إعادتها ثلاث مرات, لم تدرس بالأصل ولم تحضّر لامتحاناتها, ما كان يشغل بالها هي الصراعات التي أوقعت نفسها بها من غير قصد.
تسأل عهد والدها:
=شو بابا شو قالولك عن العريس؟
-منيح منيح يا بنتي, اتكلي على الله..
والد عهد يريدها أن تتزوج لينتهي من ذات الصراعات, فحديثها الدائم عن المنزل ومشاكل المقربين بدأت ترهقه, وهوالذي لم يهتم يوماً بحال ابنته وأولاده( كا يقولونها باللهجة السورية الدارجة, “بالمشرمحي بدو يخلص من بنتو”), بدل من أن يسأل عن الشاب, ذهب ليتناول الفطور عند عائلة العريس!!
الساعة الرابعة الآن والهاتف الأرضي للمنزل يرن, إنها ابنة الخال ميادة, تريد ان تحصل على الجواب لتوصله إلى عائلة العريس.
ميادة هي جارة منزل العريس شاهين, وهي من أرسلتهم لابنة عمتها عهد, في ثقافة هذا المحيط ما تفعله ميادة يرفع له القبعة فهي تساعد قريبتها العشرينية على الزواج.
ترفع الأم الهاتف..
= ألو.. أهلا ميادة حبيبتي
-شو يا عمتي قمحة ولا شعيرة, الناس قاعدين على أعصابهم
= (تبتسم الأم) قوليلهم قمحة, موافقين
(تزغرد ميادة وتقفل الهاتف)
لم تعطي عهد موافقة صريحة بجملة “نعم أنا موافقة”, لقد تم تنبؤ جوابها من حالة السكوت والابتسامة المخفية وذلك على مبدأ “السكوت علامة الرضا”.
لم يأخذ وقت تحضير مراسم الزواج وقت طويل, فبعد أسبوع واحد تمت قراءة الفاتحة وبعدها بثلاثة شهور تم عقد القران والزفاف.
خلال فترة الخطوبة وفي أول اتصال هاتفي ل شاهين مع عهد, تلبكت عهد بطريقة التواصل مع خطيبها وهي التي ليس لديها أي تجربة عاطفية سابقة ولم تكلم شاب في حياتها, لم تعرف كيف تتفاعل معه بالحديث, فقد كان هو صاحب خبرة طويلة في العلاقات ومعرفة الفتيات..
انتهى الاتصال الهاتفي الأول بقوله ل عهد:
= أنتِ بتشبهي بهلول!!
ابتسمت عهد وأغلقت الهاتف, لم تشعر بالإهانة, لقد اعتقدت بأنّ الأمر طبيعي.
مرت الأيام بسرعة من تجهيزات وتحضيرات لليوم المنشود, أثناء التحضيرات وشراء “جهاز العروس” هبت عاصفة أول مشكلة بين أهل العرسان, لقد اتهم والد العريس أهل العروس بتوفير المال من “مال العروس” لشراء “أسوارة ذهب” لقد كان قيمة مبلغ جهاز العروس (25 ألف ليرة سورية) ووقتها على عكس ما قاله لقد وضع أهل العروس فوقه لكي تتمكن العروس من تكميل جهازها, وأسوارة الذهب والد العروس من اشتراها لها كما متعارف عليه في العادات.
كظمت عائلة العروس غضبها لكي تسير الأمور على خير ويتم الزواج..
لم يكن عرساً ضخماَ ولا عرساَ عادياَ, كان حدث غريب وغير مفهوم, كل الأمور تداخلت مع بعضها البعض, تأخرت عهد عند صالون الحلاقة حيث صنعت منها شكلاً يشبه كل شيء إلاّ العروس, رفعة شعر غريبة, مساحيق تجميل كثيرة وكأنها دقيق أبيض, أما الفستان الأبيض يبدو وكأنه متسخ ولم يقوم صاحب المحل بغسله..
تأخر العروس رافقه تأخر وصول العريس والذهاب إلى صالة الأفراح, لم يجدوا أهل وأقارب عهد مكان لهم للجلوس, فالصالة مكتظة بأهل وأقارب العريس .. ساعة من الوقت مضت وكل شيء كان كارثي ولكنه انتهى وذهبا عهد وشاهين لبيتهم الجديد الموجود مع بيت حماها.
حملت عهد بعد شهر من زواجها بطفلتها الأولى, فكرة العلاقة مع زوجها كانت مرهقة في البداية, ولكن الحمل خفف من عبئ العلاقة وجعل الأمر عادياً فيما بعد.
لم يكن منزل عهد الجديد بالشيء المميز أو العائلة الجديدة هي العائلة المثالية التي تطمح بها, نزاعات عائلية.. أسرة كبيرة.. منزل عشوائي ضمن عشوائيات مدينة دمشق.. لكنها طمحت أنّ هذا الزواج سيحقق لها حلماً ما.
حاول شاهين أن يتصرف وكأنه رجل جيد, ولكن أكاذيبه بدأت تتكشف لعهد شيئاً فشيئاً, لم يكن يعمل بتأجير السيارات فقط بل كان يؤجر تلك السيارات للسواح ويوصلهم إلى النوادي الليلية, واكتشفت لاحقاً أيضاً علاقته بكثر من بنات الليل ومن بينهن لديه علاقة قوية وأصيلة مع إحداهن.. هنادي عشيقته والتي يقيم معها علاقة جنسية من قبل حتى أن يتعرف عليها والتي استمرت حتى بعد الزواج.
في يوم شتوي بامتياز بأحد أيام شهر “شباط” يتصل شاهين بوالدة عهد ليخبرها بأنّ “مية الراس للجنين طقت” ويجب الولادة القيصرية بالحال, وجاءت أمينة على الدنيا, هكذا اسماها الأب على اسم والدته, رغم أنّ عهد كانت تريد اسم جولي لكنه رفض تلبية رغبتها.
تُعتبر عهد “ست بيت” بامتياز, تُلاحق جميع مهامها اليومية كزوجة وكأم وحتى ككنة بشكل جيد وعلى الرغم من ذلك اعتبروها بيت حماها وزوجها بأنها مهملة ولا تجيد التحكم بشيء.. لا تعرف عهد الدفاع عن نفسها, تواطئت مع السكوت وجعلته حليفاً لها, سمعت الشتائم من زوجها ومن بيت حماها, تعرضت للتعنيف من زوجها, أجبرها على تقبل عشيقاته وعلى تقبل هنادي, مارس ضدها جميع الأساليب العنفية.. لكنها رضخت واستكانت للوضع, فهو زوجها وقد أصبحت متعلقة به, لم تستوعب جدية العنف الذي تتعرض له بشكل شبه يومي.
جرحتها جملة “صدرك مترهل متل المعزة”, فهي مرضعة وقد أنجبت وتبدل جسدها, لم يستوعب ذلك ولم يهمه مشاعرها حين قال شاهين جملته, كل ما أراده هو إشعارها بالنقص وبأنّ أجساد عشيقاته وجسد و”صدر” هنادي أجمل.
كثرت المشاكل بينهما, وها هي أخيراً قد حاولت أن تأخذ موقفاً مما يحصل, وقفت أمها وأخاها وأختها بجانبها, اقنعوها بفكرة الطلاق وباحتواء ابنتها, شجعتها أختها سارة على اتخاذ خطوة الطلاق والانتقام لأجل كرامتها وقالت لها:
= لا تفكري إذا جبتيلو الولد متل ما عم تفكري رح ينعدل ويصير منيح معك.. العاطل رح يضل عاطل
-يبدو أنها اقتنعت عهد ..
,اقتنعت لكنها عادت عن قرارها عندما جاءت جاهة أهل شاهين لاستعادتها إلى منزل الزوجية.
مازالت مؤمنة عهد مثل معظم السيدات العربيات بأنه “بالصبي رح ينصلح حالو”, لتحمل بطفلها الثاني ياسين بعد أسبوع من عودتها لزوجها.. واسم الولد ياسين نسبة لاسم والد الزوج, فهذه المرّة من حقه بالتأكيد تسمية ابنه على اسم والده كونه الابن الأكبر له.
خلال فترة حملها بياسين وفي شهرها الخامس, أعلن شاهين عن نيته في السفر خارج سوريا, متحججاً بالوضع الأمني في البلد وبأنه سيتعرض للضرر في حال بقي هناك.. ترك عهد على نية فرج قريب لوضعهم, ودّع ابنته أمينة.. نادته:
= بابا…
-حضنها وكان آخر حضن تحصل عليه أمينة.
لم يعد شاهين, بعد عدة أسابيع قليلة تكتشف عهد زواجه من هنادي وهي حاملة بطفلة في أشهرها الأخيرة, سافر شاهين إلى لبنان وكان ينوي من بعدها السفر إلى السويد.
في اتصال هنادي ب عهد قالت لها:
= أنا أحق به, فهو كان يحبني من قبل الارتباط بكِ, ولكن أهله أجبروه الارتباط بكِ لأنني ابنة ليل وأنتِ لا.. أصلاً أنا “سفرتو على حسابي”!!
استفز هذا الكلام عهد, ضاقت بها الدنيا.. تريد زوجها, تريد الاحتفاظ به, الغيرة بدأت تأكل قلبها..
كثرت المشاكل حتى في البعد, استفزها أهلها وكل المقربين, استفزتها هنادي, استفزها شاهين, لم يتركوا لها دقيقة أو حتى ثانية تشعر بها بكرامتها, جعلوا قيمتها صفر, ووجودها بينهم الآن فقط من أجل تربية الأطفال.
في أحد الأيام حدث انفجار كبير في المبنى المقابل لسكن عهد, كانت ما تزال حامل بطفلها, وطفلتها أمينة مازالت صغيرة.. لم يهتم شاهين بأمنهم, لم يحرك ساكناً, قرر البدء بحياته الجديدة دون تشويش.
أطلَّ ياسين على الدنيا, لتبدأ ظهور إصابته بمشاكل في الدماغ بعد فترة قصيرة من قدومه.. تُركت عهد تواجه مصيرها ومصير أطفالها لوحدها.. تحملت, عانت من أجلهم, لكن ما من تقدير مقابله.
بقيت على هذه الحالة مدة خمس سنين, وحين أرادت أن تبحث عن من يهتم بها, وجدت الجميع يلوم, يواجه ويشتم.. لم ترتكب ذنباً.. أرادت أن تشعر بقيمتها..
من السويد إلى سوريا, قام شاهين بطردها من المنزل, وأجبرها على ترك أطفالها لدى منزل أجدادهم..
قاومت.. أرادت أطفالها.. ما من مجيب.. سافرت إلى أربيل لتستقر مع أهلها هناك.. ورفعت قضية خلع.. تمردت عهد, أرادت استرداد شيء من حقها, حصلت على الطلاق, وما تزال إلى الآن تطالب بأطفالها, وأصبح ل شاهين ثلاثة أطفال من هنادي, والآن تذكّر طفله ياسين المريض ويريد معالجته في السويد.