استيقظت عند الساعة السابعة صباحًا في العبادية على أصوات عدد من النسوة المجتمِعات على شرفة منزل جدتي. شممت رائحة كيكة الشوكولاتة التي اعتادت جدتي خبزها وتركها في الفرن عشر دقائق أكثر مما ينبغي، ممزوجة برائحة البصل المقلي المنبعثة من منزل الجيران الذين يتناولون الغداء عند الظهر. أبواب زرقاء اللون ونوافذ حمراء ومنازل مكتظة تخترق جدرانَها الرصاصات التي حاول الطلاء إخفاء أثرها طبقة بعد طبقة. أما نباتات جدتي التي سكنت المنزل طوال أربعين عامًا، فنجحت في التمدد إلى شرفتها بحثًا عن نور الشمس حتى باتت تناطح السقف.
“تاتا أمل”، أو “إم نسيم”، هي الأم المثالية، والأرض التي لا ينضب عطاؤها، والحكواتية الأصلية في العائلة. تخطت السبعين عامًا وأشك أنّ الناس هنا يتذكرون البلدة التي أتت منها في الأصل. هي تقول إنها من ضيعة الجبة لكنها انتقلت للعيش في المدينة عندما كانت شابة، فعرفت أين تقع كل المقاهي ومحطات الحافلات أكثر من بنات المدينة. لطالما كررت على مسمعي أنها تزوجت بفستان أزرق حين كان عمرها 16 عامًا. أما جدي فكان في الثلاثين من عمره وارتدى قميصًا أزرق أيضًا حاكته له بنفسها. هذه الذكرى هي أول ما ترويه كلما سألتها من أي منطقة هي، ثم تستعيد كل الأيام التي تلت زواجها، وكل التعب الذي شعرت به.
“كان بحبني جدّك اللّه يرحمو.”
على الشرفة جلست كلٌ من سميرا وهيام، جارتَا التاتا، وأمي واثنتين من عماتي وكن يحتسين القهوة. انضممت إليهن واستمعت إلى قصصهن بصمت كالعادة. القصص نفسها تتكرر مع كل صبحية مع تفصيل جديد من هنا وتنهيدة من هناك وبعض الضحكات والمزيد من لحظات الصمت للتأثيرات الدرامية. لا شك أن كيكة الشوكولاتة كانت محروقة، لكنني تناولت قطعة منها على أي حال.
كنت لا زلت أشرب فنجان القهوة الأول، بل لم أكن قد ارتشفت سوى بضع رشفات حين هيّأت عمتي الكبرى الأجواء لسؤالها التالي وقالت: “بعرف إنّو عيب بس، كيف البنت بتجيها إذا بتكون مسكّرة بين إجريا؟”
أنزلت فنجان القهوة من يدي ونظرت حولي بضع مرات. لم أكن أتوقع هذا السؤال، أو ربما لم أتفاجأ به. أنا طالبة طب ويحب الجميع سؤالي عن أمور تعلمتها. خطر في بالي كيف أن الطب احتكر أجسادنا فيما عمتي بالكاد تنظر إلي بطرف عينها. يا ليتني أستطيع التحدث عن مهبلي لأنه جزء مني وأعرف شعور أن يكون لديك مهبل. الخلاصة الوحيدة التي بقيت معي من درس الأعضاء الإنجابية هي أن أعضائي التناسلية معقدة. صعبة الإرضاء. إنجابية. يبدو أن الحديث عن الجسد من وجهة نظر طبية يجرده من العار أو “العيب” الذي يلحق به. لم أعد تلك الفتاة ذات الـ 13 عامًا التي تلقّت صفعة من والدتها لأنها طلبت فوطة صحية عندما أتاها الحيض للمرة الأولى. بإمكاني قول ما أريد والإفلات بفعلتي الآن. كنت صاحبة الكلمة الفصل في الصبحية.
إلتزم الجميع الصمت بانتظار جوابي، وبخاصة أمي التي بدت متلهفة. شرحت لهن أن المهبل لا يكون مسدودًا أو “مسكّر”، بل أنّ جدار المهبل محاط بغشاء لا يعيق تدفق دم الحيض. هو أيضًا يختلف من حيث البنية من شخص لآخر. بعض النساء يولدن من دونه وقد يكون أكثر مرونة لدى البعض فيتمدد من دون أن يتمزق حتى عند ممارسة الإيلاج الجنسي.
“قولي هيك لستّك بعد لعملتو فيني.”
أطلت تاتا أمل وبيدها صينية عليها قطع من الشمام المقطعة بشكل غير متناسق.
فكرت حدا عملّك شي .ما عرفتش إنّو إجتك على التسع سنين .كنت ولد وقت جبتك.””
تاتا خبزت بيديها قوالب الحلوى وزرعت البذور وخاطت الزي المدرسي، وبيديها شدت ابنتها ذات التسع سنوات من شعرها وجرتها إلى عيادة الطبيب، لأنه لم يخطر لها أنّ ابنتها يمكن أن يأتيها الحيض في هذا السن.
صرخت عمتي قائلة: “شو عملتي! مين عمل فيكي هيك! شو عملتي فينا!” وهي تقلّد أمها التي جرتها في طرقات الضيعة. كانت عمتي في التاسعة من عمرها حين أدركت أن ما تفعله بجسدها لا يتعلق بها، بل بالآخرين، فما كان لها إلا أن حمت جسدها هذا. الأرض التي لا ينضب عطاؤها بوسعها أن تكون قاسية وبلا رحمة. ما فعلوه بالأرض كان قاسيًا وبلا رحمة. راحت تاتا تردد أنها لم تكن تعلم. لكنها لم تعتذر. نظرت عمتي لينا إلى تاتا بنظرة استياء ولوم وحب. هذا هو معنى حب الأم أحيانًا.
هذه القصة قديمة كقصص كان في قديم الزمان. كل امرأة عاشت هنا مرت بهذه القصة وهذه الصبحية. في صبحية أخرى، ستخبرني تاتا قصة عن يديها وعن مكنة الخياطة والإبرة وكيف أطعمت هي وجدي أفواه أطفالهما الستة. وفي صبحية أخرى، ستنصح عمتي نسيمة النسوة بوضع العطر على مهبلهن للتخلص من “الرائحة”. وفي صبحية أخرى، ستزف أمي خبر أن عمي رزق بطفل جديد وأن زوجته تميل إلى الانتحار، يسمونه الأطباء اكتئاب ما بعد الولادة. وفي صبحية أخرى، ستخبر لينا الجميع أن زوجة ابنها السابقة عاهرة كريهة الرائحة وأنها أحرقت لها كل ملابسها. في كل صبحية أستمع إليهن وأجادل وأشرح. في كل صبحية يستمعن إليّ ويفهمن ويعتذرن من بعضهن البعض ولكن من دون كسر قواعد اللعبة. وتبقى القصة على حالها. ستؤاخذ تاتا نفسها على قسوتها مع بناتها. وستؤاخذ أمي نفسها على قسوتها معي وما أصبحتُ عليه بسبب قسوتها أو بالرغم منها.
متى سأتوقف عن الشعور بأنني أنتمي إلى هؤلاء الأشخاص؟ لمَ لا زلت جزءًا من هذه القصة؟