كان يوم الإثنين، إتصلت بي زوجة أخي لتخبرني بأنها ذاهبة غداً لزيارة أهلها، وكانت فرحة جداً، متشوّقة لرؤية أهلها بعد غياب طويل.
في اليوم التالي، ونحن منتظرين وصولها، وكان يوم الثلاثاء 5/8/2018، الهاتف يرن. من يا ترى؟ رددت لأسمع خبر وصولها سالمة، لكن للأسف، أخي يخبرني أن الحاجز المتمركز على أطراف البلدة قام بإعتقالها، وطلبوا منها أن تترك طفلها الذي لا يتجاوز عمره التسع أشهر مع أخوته الثلاثة، الذين كانوا يبكون، يريدون أمهم.
تركت أطفالها على أمل العودة القريبة.
قام أخي يتواصل مع جميع الجهات التي بإمكانها مساعدته بهذه القضية، لكن للأسف، جميع المحاولات بائت بالفشل. مرّت الأيام صعابًا علينا، ننتظر خروجها، حاملين همّ الأطفال الذي قام الحاجز برميهم على أطراف الشارع، وعمر أكبرهم لا يتجاوز السابعة.
لكن للأسف، مرّت الأيام ونحن نحاول. بعد محاولات متنوعة، إتصل شخص بيخبرنا بأن هناك حلّ لهذه المشكلة، وهي أن يذهب أخي، وهو زوجها، ويسلّم نفسه لهذا الحاجز، وبالمقابل، تخرج زوجته التي كانت عائدة منذ غياب عن أهلها، متشوّقة لرؤية أمها وأبيها وإخوتها الذين كانوا منتظرين عودتها بفارغ الصبر.
العائلة بأكملها في صدمة، والحل هو أن يسلّم أخي نفسه لتخرج هي.
قررنا الإنتظار لأيام، لنرى ماذا سيفعل، لكن كانت أيام قليلة من بعدها فقدنا الإتصال بأخي أيضاً تحت ظروف غامضة في 26/08/2018. مضى عشرون يوماً على إعتقالها، وهو ينتظر مرور شهراً، بإنتظار تحوّل بسيط في هذه القضية. لم يفتر الكلام بيننا في هذه الفترة، نحن على إتصال دائم، لم يخبرني بشيء مريب يحدث حوله، كان كتوماً جداً.
عند الساعة السادسة من مساء يوم 26/08/2021، كانت آخر مرّة سمعت صوته فيها على الهاتف. أخبرني بأنه قرّر أن يسلّم نفسه، ولن يترك زوجته بأيدي هذا النظام، وأنه سيفعل ما بوسعه لأنقاذها. أخبرته بأنها ستكون محاولة فاشلة، وأن النظام لن يتركها. أخبرني أن مصيره مجهول، وحياته بعد هذه المشكلة، إن بقيت زوجته داخل السجن.
في اليوم التالي، حاولت الإتصال به، لم يجيب. لم أستغرب، عادةً ما يفقد الإنترنت لأيام. حاولت الإتصال به مرات ومرات، ولكن للأسف، دون جدوى. بدأت أفكّر كيف ممكن أن أصل لأيّ رقم قريب منه، بدأت أبحث في سجلّ هاتفي، علّي أجد أي شيء يوصلني إليه. وجدت رقم لصديقه، كان قد إتصل بي مرّة منه، ولكنه أيضاً لم يجيب. بعد مرور أيام على قطع الإتصال معه، حاولت خلالها مرات ومرات، لكن للأسف ما من مجيب، شعرت بالحزن الشديد، ولكن شعوري لم يكن كشعوري الآن، كنت أظنّ أنها مسألة وقت وسيتصل.
لكن المأساة لم تقف هنا لهذه العائلة، ففي 30/08/2021، أتصل بي أحد أقاربي ليخبرني أن أحد أطفال أخي المفقود قد فارق الحياة. هذه الصدمة بدأت تكبر، الحرقة على هذه العائلة التي في شهر واحد فقدنا نصفها. بقي من العائلة 3 أطفال، بلا حول ولا قوة، وهذه المعاناة لم تعتي عائلة لطيفة التي فقدت شهيداً ثم زوجة أخي ثم أخي ثم طفل لم يتجاوز عمر التسع أشهر بسبب حرب ليس لهم بها ذنب، ولكن يوجد آلاف العوائل السورية لم يبقى بيت لم يفقد شخص عزيز.
رغم الغربة واللجوء، إلا أن المعاناة لم تزيدنا إلا قوة لنتصارع مع الحياة، لنعيش وندافع عن حقوقنا، ومع كل هذه العوامل المحيطة بنا، إستطعنا إحضار الأطفال الثلاثة وانتشلناهم من هذا العالم المظلم. ثلاثة أطفال لعائلة منكوبة خسرت أغلى ما تملك، أم وأب وأخ. ما الذنب الذي افترقه هؤلاء الأطفال ليعيشوا مبعدين، فاقدين لأبسط مقوّمات الحياة؟
لكن بعد هذه الجهود، إستطعنا إحضارهم إلى لبنان ليتلقوا بعض الدعم النفسي والمتابعة من قبل جهات معنية بالأطفال، ليتجاوزوا هذه المرحلة الصعبة في حياتهم، من إعتقال وسلب للحريات. بعد قدومهم إلى لبنان وإجتماعنا بهم، حاولنا منحهم بعض مشاعر الحب والحنان، ولكن مهما حاولنا، لن نستطيع ملئ هذا الفراغ الموجود في هذه العائلة الصغيرة.
في أول حديث بيني وبين إبنة أخي التي لت يتجاوز عمرها الست سنوات، قالت لي “أنا ما بحب بابا، لأنه السبب أنو ماما محبوسة، هو شخص سيء، وهو وراء إعتقال ماما.” بينما كنت أسمع حديثها، وأنا منزعجة من كلامها، تحمل هي هاتفي لتلعب به، فترى صورة والدها على الشاشة الرئيسة. سألتني ببرائة طفلة “معك رقمه؟”، رغم كل الكلام السيء الذي كان يدخل في رؤوس هؤلاء الأطفال تجاه والدهم الذي فقد في ظروف غامضة.
هذه الأمور كلّها جعلت منّي شخص آخر يبحث عن حلّ. حاولت بشتّى الوسائل لأجد حلّ، لكن للأسف، لم أستطيع. حتى لأسمع خبر، شيء ما… وأنا جالسة أحد الأيام، أشارك في محاضرة، سمعت عن حركة نسوية تسمى “حركة عائلات من أجل حرية المعتقلين”، سئلت وإستفسرت عن هذه الحركة، فوجدت نفسي فيها.
أنها تعنى بشؤون المعتقلين والمفقودين، وجدت فيها من يحمل نفس الألم، لعلّني أجد من يسمعني، ومن يلمس معاناتي. قررت الإنضمام لهذه الحركة النسوية التي شكّلتها خمس نساء يحملن نفس الألم، بدأت معنوياتي تتحسّن، بدأت أجد أسلحة جديدة للبحث عن الحقيقة.
تعلمت منهن الإصرار والمثابرة، والمطالبة. أنا في وضع لا أحسد عليه. بين فقد وإستشهاد وأطفال صغار، خسارات متتالية أنا بحاجة لمن يمسك يدي. كان همّي هؤلاء الأطفال الذين عانوا ما عانوا من شتات وفقد وخسارات، قد لا نجد أثرها، ولكن هي مكبوتة في نفوسهم ومدفونة. نحتاج إلى لم شمل هؤلاء الأطفال، كيف والحرب ما زالت قائمة، والسجون مغلقة؟
كل هذا ما زادني إلا إصرار وتفاعل مع المجتمع، فبعد انتسابي لحركة عائلات، بدأت بحضور دورات تمكين، مثل الكمبيوتر والتمريض، وفي العام الماضي، شاركت بتدريب قيادي لمدة تسعة أشهر، وبنهاية التدريب، تم تقديم مبادرات أو مشاريع تمويل.
أخذت على عاتقي تقديم مبادرة تتعنى بأطفال المعتقلين، وكنا مجموعة مؤلفة من خمسين صبايا، بدأنا بوضع أنشطة، وتم تقديم الطلب. بعد فترة لم تكن طويلة، تلقيت الخبر بنجاح المبادرة، وأنه قد تم تمويلها. كانت أهدافنا تحاكي وجع الأطفال، تنمي قدراتهم بحيث تبت في أنفسهم الأمل. لا زلنا الآن ننتظر مستقبل مشرق، يحمل لنا ولأطفالنا بعض الحب والأمان، لننعم بحياة هادئة بعد عاصفة سرقت منا أغلى الأشخاص.